Free counter and web stats

Sunday, February 15, 2009

حلم عام... خاطرة من مظاهرة باريس

التاسع والعشرون من كانون الثاني 2009 لم يكن عاديًّا في باريس، كان إضرابًا عامًّا!
نزلت إلى محطة المترو لأصل إلى مكان التجمع لتبدأ المظاهرة فأقرأ في كل مكان: "سير القطارات سيكون متقطعًا ومضطربًا بسبب الحركة الإجتماعية"! لم يكن إضرابًا فحسب بل حركة اجتماعية أيضًا ... وصلت إلى ساحة الباستيل حيث التجمع فيترائى لي بحر من الألوان وفضاء من الموسيقى وجماهير تقفز، تغنّي وتضحك. لو لم أكن عالمًا بالمظاهرة والإضراب لقلت إنه مهرجان أو حفل ضخم يريد الفرنسيون عبره خلق عذر للخروج من كآبتهم المزمنة! لكن لا، كانت هذه المظاهرة التي صارت احتفالية نضال ...
سرت في الموكب الهائل نصرخ ونغني ضد سياسات ساركوزي المجحفة التي تريد أن تمحو كل مكاسب النضالات العمالية التي بدأت منذ حوالي قرن، يريد أن يلغي القطاع العام والخدمات التي يقدمها من تعليم مجاني والتقاعد والاستشفاء. فيحمل المواطنين عبء الأزمة المالية العالمية ويضخ الأموال في المصارف التي هي أصل الأزمة فتكون الحكومة الفرنسية، كمعظم حكومات الدول الصناعية، اشتراكية مع الأغنياء ورأسمالية مع الفقراء.
وأنا تائه بين المتظاهرين أجد نفسي أمام فرقة موسيقية تعزف ألحانًا عذبة بطبولها التي تقرع رفضنا الإستسلام لقمع هذا النظام. أتفحص وجوه الناس الفرحة والضاحكة فيوزعون الماء والكحول والإبتسامات لبعضهم ... إنها حقًا احتفالية! فنسير مع الفرقة رقصًا وتمايلًا بين الألوان القوس قزحية التي تملأ شوارع باريس. فأرى أناسًا يلونون نفسهم، آخرون متنكرون، وطلاب مدارس عمرهم لا يتعدى ال13 يوزعون بيانات ويهتفون دفاعًا عن مدارسهم الرسمية وعن أساتذتهم المهددين بفقدان عملهم. وهناك أرى أولئك الذين يدافعون عن بيوتهم وعن رفاقهم النائمين في الشوارع صارخين بأن المأوى حق لا يساوم عليه ! أما الجميع فكانوا يصرخون: كلنا موحدون! عمال القطاع العام والخاص، طلاب، مشردون، عاطلون عن العمل، إلخ. كانوا كلهم صوتًا واحدًا، لحنًا واحدًا ورقصة واحدة يطالبون بالعدالة الإجتماعية، يدافعون عن أعمالهم من الطرد التعسفي، عن حقهم في التقاعد اللائق والتعلم والمأوى والعيش في كرامة! يسمعون رسالتهم: الإنسان أهم من رأس المال! هذا لم يكن إضرابًا عامًّا فحسب بل كان حلمًا عامًّا ...
هذا الحلم الذي بدأ في اليونان وإيطاليا واسبانيا فوصل إلى باريس! خلال سيري رحت أتسائل، متى سيجتاح هذا الحلم لبنان؟ فالأوضاع الإجتماعية والإقتصادية ليست جدًا مختلفة، بل هي أسوأ! حكوماتنا المتعاقبة تسمح لنفسها انتهاك كل حقوقنا بحجة جذب الإستثمار، فيعدونا بالجنة شرط أن يسلخ جلدنا في وقت الإنتظار: فالشاطىء والبحر ملك خاص، التعليم الرسمي والمجاني يتعرض لعملية تصفية مبرمجة لصالح التعليم الخاص المسموح لفئة معيّنة من الناس، القطاعات الرسمية تسير نحو مقصلة الخصخصة فنفقد آخر وسيلة لتكون القرارات الإقتصادية نابعة من عملية ديموقراطية، الحد الأدنى للأجور لا يكفي لتأمين الحد الأدنى من الحياة اللائق، العمال مهدور حقوقهم وخاصة الأجانب منهم، مناطق بكاملها مهمشة اقتصاديًا، عملية استعباد مقنعة تجري بحق العاملات المنزليات الأجنبيات من سرلنكييات و أثيوبيات وغيرهن، تفقير وتهميش وعنصرية مبرمجة ضد اللاجئين الفلسطينيين، وعملية تدمير منظمة للبيئة. هذه بعض من أشكال القمع الجمة التي نخضع لها بحجة السياحة والإستثمار والنمو الإقتصادي. فلماذا لا تتشكل حركة ودينامية وطنية للمواجهة؟ فالأكثرية الساحقة من المجتمع اللبناني تعاني من هذه الحالة.
اليوم كنت فرنسيًا أسير بين مئات الألوف من الفرنسيين! نعم لم أكن لبنانيًا بل أصبحت مواطنًا فرنسيًا أعلن رفضي للأمر الواقع، غدًا سأكون يونانيًا، إيطاليًا، فلسطينيًا، سوريًّا، لبنانيًا و إلخ. لأن الجنسية أصبحت فارغة المعنى والمضمون لأن الطاغوت واحد في كل هذا العالم. لأن النظام الاقتصادي العالمي هو الذي يقمع والأنظمة الوطنية هي فقط أداة لتنفيذ القمع والإرهاب. نظام وظف نفسه لدعم الإستعمار في فلسطين، لهدر حقوق الناس المكتسبة في كل أرجاء العالم، نظام يريد أن يوظف الإنسان خدمة لرأس المال، نظام يخلق حروبًا دموية ويبتكر خلافات بين الناس ليعميهم عن حقيقة أن النضال واحد ومشترك بين كل شعوب العالم.
لكن عندما يصبح الإضراب العام والنضال حلمًا عامًا فسيستحيل قتلهما. ففي ضوء كل هذا عليك أن تختار هل تكون جزءًا من الحلم أم جزءًا ممن سيدمره؟ هل ستحارب الجزمة التي تدوس على حقوقنا أم ستلبسها لتضيّق الخناق على رقابنا؟ فلا مكان للحياد واللاقرار. فإن موجة الرفض عارمة وستكبر، والغضب الذي تحول في باريس إلى احتفالية وابداع سيتحول يومًا إلى عنف ممنهج ومنظم. لأننا سنستعيد الشوارع التي سُلبت منَا وتحولت إلى مطاعم ومراكز تجارية نحوم حولها وندفع لتنشق رائحة الطعام ورؤية ملابس العيد، و لأننا سنستعيد الشاطىء والبحر اللذان حوّلا باطونًا بشعًا وملكًا خاصًا... فماذا تختار؟ هل ستكون رفيقًا أم ...؟

No comments:

Post a Comment

 
View blog authority Global Voices: The World is Talking, Are You Listening?
دوّن - ملتقى المدونين العرب Globe of Blogs http://rpc.technorati.com/rpc/ping Blog Directory