تعليقي الشخصي: المقال أدناه يعالج مشكلة الإعتداءات المتكررة التي يتعرض لها العمال السوريين في لبنان. هذه الآفة الخطيرة التي تنتشر في لبنان تنبع من استغلال انكشاف وهشاشة وضع العامل السوري في لبنان. فالمعتدون على العمال السوريين يفرّون بفعلتهم لأن لا قانون يحمي هذا العامل في لبنان وذلك ناتج عن ضعف القانون اللبناني الذي يتواطأ مع النظام السياسي القائم بل يكملّه بالنسبة لإستغلال الشرائح الضعيفة في لبنان التي تتشكل من عمال لبنانيين وأجانب، نساء، وأقليّات جنسية. فكما هو واضح بالتعامل مع اللاجئن الفلسطينيين في لبنان، كذلك مع العاملات المنزليات الأجانب (سريلنكيات، فيليبينيات وغيرهن) فإن النظام اللبناني وفي كل جنوانبه يتسّم بالعنصرية والسماح باستغلال هؤلاء العمال الذين باتوا يشكلون دعامة أساسية من دعائم الإقتصاد اللبناني. هذا النظام الإستغلالي يدعمه مجتمع عنصري، يعيش أزمة هوية بين انتمائه الشرقي وتوسلّه مكانة الرجل الأبيض الغربي. فبالرغم من تعرض اللبنانيين من عنصرية وتمييز في البلاد "المتقدمة" كسائر العرب، يظن اللبنانيون أنهم ينتمون الى فئة الرجل الأبيض فيبادرون بالتعامل بفوقية وعنصرية مع الفئات المنكشفو والهشة في لبنان كالفلسطينيين، السوريين، السريلنكيات، الفليبينييات، المصريين، السودانيين، الأفارقة، واللائحة تطول وتطول...
من صحيفة الأحبار عدد الجمعة 28 آب 2009
مرت أربعة أعوام على خروج الجيش السوري من لبنان، العلاقة بين البلدين شهدت مدّاً وجزراً، تنوّعت، تلوّنت، رغم ذلك لا يزال عمال سوريّون يتعرضون لأنواع مختلفة من الاعتداءات، يُشتَمون وتُسرق أوراقهم وأموالهم
بيسان طي
تغيّرت أحوال السياسة خلال الفترة الأخيرة، بدأ الوسطاء شق طرقات نحو دمشق ليسلكها مجدداً رجال ناصبوا النظام السوري العداء في السنوات الأخيرة. تتنوّع معطيات العلاقة اللبنانية ـــــ السورية (السياسية والاجتماعية...) لكن الثابت الوحيد هو أن العمال السوريين في لبنان ما زالوا عرضة لأنواع مختلفة من الاعتداءات، بعضها لفظي، كالشتم أو تعييرهم بأنهم «دونيّون» أو ملاحقتهم بعبارة «كعك... كعك» لتعييرهم بأنهم رجال استخبارات، وما إلى ذلك من قاموس العلاقات الاجتماعية اللبنانية ـــــ السورية.
يكاد لا يخلو تقرير أمني من خبر اعتداء على عمال سوريين، ضرب أو تهجّم لفظي أو سلب أو... ولكن اللافت عند قراءة التقارير في الشهور الأخيرة ارتفاع نسبة الاعتداءات القائمة على ضروب من الاحتيال، يتنكّر لصوص في زي رجال أمن، يقتربون من عامل أو مجموعة عمال يصادفونهم في طريق البحث عن لقمة عيشهم، أو يقصدونهم في محلات إقاماتهم ـــــ الفقيرة بالتأكيد ـــــ يدّعي اللصوص أنهم يريدون التأكّد من الأوراق الثبوتية للعمال، يجبرونهم أحياناً على الصعود إلى سياراتهم، يأخذون منهم أوراقهم وكل ما في حوزتهم من نقود، ويرمونهم على قارعة الطريق، ثم يفرّون إلى جهات مجهولة.
تتعدّد الروايات التي يتناقلها عمال عمّا تعرض له زملاء لهم، أحمد يحكي عن سمير (اسم مستعار)، يروي أن الأخير أُهين قبل أن يُرمى من باب السيارة، التي أُجبر على الصعود إليها بالاحتيال، يقول إن الشابّ الذي سلبه ماله رماه بالشتائم، شتم أمّه وأخته، «وشتم البلد التي جئنا منه». أحمد يسكن في غرفة يتقاسمها مع ستة آخرين، يقول إنهم يجولون برفقة بعضهم بعضاً دائماً، وإنهم لا يبادلون أحداً الحديث، «بتنا نعرف بعض أصحاب ورش التزفيت، لا نعمل إلا مع هؤلاء، أحياناً يتوقّف بجانب الطريق أحدهم ويدّعي أنه يريد أن يعرض العمل عليّ فأرفض، أخاف من الكاذبين، أخاف من ضروب الاحتيال». يحكي أحمد عن ابنته التي لم تتجاوز من العمر عاماً واحداً وهو لم يرها إلّا مرتين، تركها لحضن أمها في قريته جنوب سوريا، ترك معهما في البيت شهادته الجامعية في العلوم الاجتماعية، وقصد لبنان مع ابن عمه ليبحث عن رزقه «في ورش البناء، هناك لا نتحدث عن دوركهايم، خلال الاستراحة لا نتحدث أبداً، ننصرف للأكل فقط».
يمشي أحمد مع أصدقائه وفي مخيّلته هاجس واحد «لا أريد أن أكون ضحية نصّاب»، تخنق صوته الغصّة، يتأتئ قليلاً، يتمالك أعصابه ثم تخرج الكلمات من فمه متقطّعة، بصوت مبحوح يردف «لم أترك ابنتي وزوجتي وقريتي، لأعمل كالخنزير ثم يأتي لصّ ويسرق كل ما جمعته لأنه يكره السوريين». ننتظر وقتاً طويلاً حتى يتمالك أحمد نفسه، ثمّ يذكّرنا بأن حياته في لبنان تفتقد أبسط مقوّمات العيش بكرامة، كما هي حال معظم العمال السوريين، الذين ينامون في غرف أشبه بالأكواخ، يأكلون طعاماً رخيصاً جداً، يلبسون ثياباً رثّة، ويجولون في الشوارع فيما تلاحقهم عيون المارّة، وحيث لا يخفي بعض اللبنانيين كرههم لهم. يقول أحمد «تكثر الاعتداءات علينا، ولكننا المتّهمون دائماً إذا وقع حادث، أو مشكلة ما، في مكان نكون فيه».
يتوجّه بعض العمال ـــــ الضحايا إلى أقرب مخفر، يتقدمون بشكوى، ثم ينصرفون لبكائهم أو آلامهم أو...
خضر شاب عشريني، يجول في طرقات العاصمة حيث يمكن أن يقع على ورشة، «يعرض خدماته» على أصحابها، يقول «أعرف أن تجوالي وحيداً أمر خطر»، يلفت إلى أنه يشعر بالخطر مصاحباً له، يروي حكايات يتناقلها أصدقاؤه عن عمال آخرين وقعوا ضحايا لعمليات احتيال، يبتسم ويردف «الإفلاس يحميك من غدر الكارهين، إذا أرادوا سلبي فلن يجدوا مالاً في جيبي». كلامه يلفتنا إلى أواصر تربط «أبناء هذه الجالية» كما يسمّيها، وهو إذ يعرف قصصاً عن عمال وقعوا ضحايا سلب فإنه يسترسل في وصف أوضاعهم، قصصهم، عناوين ذويهم و«الهمّ الذي رماهم من قراهم على طرقات لبنان».
يلفت محامون منتمون إلى جمعيات تُعنى بحقوق الإنسان إلى أنهم يتابعون قضايا تخصّ عمالاً سوريين عادةً إذا كان العامل قيد التوقيف، وفي أحيان أخرى تصدر بيانات أو دراسات تندّد بالاعتداءات على «العمال الأجانب»، ولكن اللافت أن قضية العمال السوريين لا تلقى الاهتمام اللازم من جانب وسائل الإعلام والجمعيات غير الحكومية.
الاعتداءات على العامل السوري تنطلق من «منطلق عنصري» هذا ما يُجمع عليه مهتمّون بقضايا المجتمع المدني. محامون متابعون لقضايا حقوق الإنسان يذكّرون مرة أخرى أن الدستور اللبناني نص في مقدمته على احترام شرعة حقوق الإنسان، وهي تتضمّن إدانة للعنصرية، ولكن لا نص في القانون اللبناني يترجم هذا الالتزام لجهة معاقبة مرتكب الفعل العنصري، ولا وسيلة لحماية الضحية إلا إذا كان الفعل الواقع عليها يعدّ مخالفة أو جنحة أو جناية يُعاقَب مرتكبه عليها وفق نصوص قانون العقوبات ومواده. وفي هذا الإطار يذكّر المحامون بأنْ لا تمييز بين لبناني وأجنبي بالطبع في هذا الإطار «النص القانوني يعالج أي حادث كجريمة أو عقوبة، ولا فرق إن كان الضحية سورياً أم مواطناً لبنانياً، أو إن كان يحمل جنسية أخرى». وبإمكان العامل أن يستفيد من نصوص قانون العمل إذا وقع في حقه ظلم في عمله.
في عام 2005 أصدرت منظمة العفو الدولية «أمنستي» بياناً أدانت فيها الاعتداءات التي تعرّض لها عمّال سوريون في لبنان. خلال نحو شهرين تردّدت أنباء كثيرة عن مقتل عشرات العمال السوريين، وتعرُّض عشرات آخرين للضرب أو إطلاق النار أو التهديد أو السرقة.
ارتفعت نسبة الاعتداءات ضد العمال السوريين بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ثم تراجعت لكنها لا تزال تمثّل ظاهرة. ولكن الجمعيات المهتمّة بقضايا حقوق الإنسان لم تعد تطلق الحملات لحماية هؤلاء العمال، يتحدث ممثّلوها عن المشكلة إذا سُئلوا، ولكنهم يعترفون بأن هذه القضية لم تمثّل بعد مادة لحملة مبرمجة وموثّقة بأعداد الضحايا وأشكال الاعتداءات التي يتعرّضون لها.
ماذا تفعل لو تعرّضت لاعتداء؟ تتنوّع إجابات أحمد وزملائه، بعضهم يقول إنه سيتقدم بشكوى، الآخرون يقولون إن غالبية العمال الذين يتعرّضون لاعتداءات لا يتقدّمون بشكاوى لأنهم يخافون من المعتدين عليهم أو «يعتقدون أنّهم فقدوا الأمل بإيجاد حل لمعاناتهم»، أحدهم أردف «ليس للعامل السوري ربّ يحميه».
يوم تعطّلت ورش البناء
خلال الفترة التي تلت اغتيال الرئيس رفيق الحريري، تعرّض عشرات العمال السوريين في لبنان لاعتداءات، وقد قُتل بعضهم وجُرح آخرون، إضافةً إلى الضرب والشتم وصنوف تعذيب أخرى. في تلك الفترة قطع عدد كبير من العمّال الحدود اللبنانية هاربين إلى قراهم ومدنهم في سوريا، بعضهم حمل أمتعته ليلاً، ومشى عشرات الكيلومترات قبل أن يجد باصاً أو سيارة تقلّه إلى نقطة حدودية. «كان الزمن ينقلب بسرعة جنونية»، يتذكّر أحمد ما رواه له أصدقاؤه عن مخاوفهم في تلك الفترة، يذكر أنه حفظ قصصهم، وأن هذه القصص جعلته يتردّد كثيراً في القدوم إلى لبنان عام 2007 «لكن الفقر أقوى من المخاوف، وضّبت شنطتي الصغيرة، وقطعت الحدود، وجلت مع زملائي بحثاً عن عمل في ورشة».
فرار عدد كبير من العمال السوريين عام 2005 أدى إلى تعطيل معظم الورش، كما أثر في العمل في المزارع والحقول الزراعية. تحوّلت بيروت إلى ورشة معطّلة، أدرك أصحاب الأعمال يومها أن العامل السوري أصبح محرّكاً أساسياً لعملية الإنتاج في قطاعات متعددة... عاد العمال، لكنهم لا يزالون ضحية خلاف سياسي لا دخل لهم فيه.