Free counter and web stats

Wednesday, June 17, 2009

عن المطار والعودة

باريس ــ نبيل عبدو
«كان الوداع ابتسامات مبللة بالدمع حيناً وبالتذكار أحياناً».
مع الوقت، تزداد زياراته للمطار. الأمر سهل جداً: يركب قطاراً يوصله خلال نصف ساعة فقط.
مطار كبير، موحش، يعجّ بالسياح، وقليل هم من يبكون على أبواب الأمن العام. استيقظ اليوم على وقع الثلج الذي يغطي باريس، يعطيها حلّة جمال لا تناسبها، ليست «ستيلها» لكنها تفرح أبناء المدن الحارّة. يذكر مرّة، في طرابلس، يوم تساقط ما يشبه الثلج فأصبح كل شخص بمثابة كتاب تاريخ يروي عن آخر مرّة تساقطت فيها الثلوج. يومها تحدثوا عن السنوات التي عاشوها في «بلاد برّة» حيث يتساقط الثلج دوماً كأشعة الشمس على أوراق الشجر. تساءل عن اليوم الذي سيتحدث فيه هو الآخر عن أيامه في «بلاد برّة»، لا لشيء سوى لأنه سئم كونه «جوّات» هذه البلاد.
ذهب إلى برج إيفل مع أخيه، صعدا هذا الشيء الحديدي الذي يتسمر في المدينة، لديه شكل قبيح لكنه ضخم، كومة معادن متراصة تبهر السياح. صعدا وهما يكافحان البرد القارس. وصلا إلى الطابق الثاني وإذ بشرفة تطل على كل المدينة: التعجب يجتاح الجميع فتعمي فلاشات الكاميرات اللعينة عينيه. يحاولون غسل نظره لكي يرى باريس بعين سائح ساذج، أخذ يقاوم ويصرخ: «لا! أنا لست سائحاً!» فتوقف أحد اليابانيين عن التصوير ليسأله: «هل أنت مواطن إذاً؟» فأجابه «لا. أنا أنا. أنا لست من هنا، فأحياناً يخنقني هواء المدينة، وأحياناً أخرى أملّ وأهزأ من تاريخها وحاضرها. لكنني، في أغلب الأحيان، أقصد المطار لأحتسي القهوة ولأقنع نفسي بأن وطني ليس حقيبة!».
لم يفهم الياباني الرّد، لأنه لا يجيد الفرنسية ولم يقرأ محمود درويش...
في كلّ مرة يذهب إلى المطار يشعر بضيق رهيب، حين يظن أنه انتمى لهذه المدينة يذكره المطار بأنه اشتاق إلى العودة وأنه سئم الرحيل. يقف هناك ينتظر طائرته التي لن تأتي، وإن أتت، ستأخذه إلى كل مكان سوى الوطن. ينظر إلى اللوح الذي يدلّ على الرحلات، فيقرأ اسم بيروت. يخيل له أن أهله هناك يعدّون الدقائق حتى تصل طائرته، يتأففون من تأخرها، ويتشاركون التذمر مع آخرين بانتظارها. بالنسبة إليه، لبنان يقع وراء الأمن العام، أو ربما في السوق الحرة أو قاعة الانتظار. هناك، يستطيع شمّه، فيعشّش عطر زهر الليمون في أنفه، رائحة الزيتون الذي يعصر تحت منزله، كل شيء لديه نكهة أخرى. هو أكيد من ذلك. لأنه عندما يكون هناك، يلاحظ الفرق بين عطر المدينة الذي يلفه وعبير العودة التي يتوق إليها. يعجز عن التقدم والعبور، يرمقه المسافرون بنظرة شماتة كأنهم يقولون له «شمّ ولا تدوق»!
حين أراد الرحيل إلى باريس سألوه عن السبب، فأجاب أنه يريد سماع أغاني فيروز ومارسيل خليفة من بعيد، ليعيش الوطن خارج الوطن... بعد مرور عام، سألوه لماذا تريد العودة؟ فأجاب بأنه قد سئم من ترديد الأغاني وحده.
في كلّ مرّة يذهب فيها إلى المطار يفتقد إلى حقيبة، وفي كل مرة يدرك أنها لن تكون الزيارة الأخيرة. يدرك أن هناك مطارات أخرى سيزورها، فيحاول أن يوزع دموعه بتساوٍ بينها. في كل مرّة يغادر المطار ليرجع إلى «بيته» الباريسي يعيش الرحيل من جديد ويدير ظهره إلى بيته.


الأخبار عدد الاربعاء ١٧ حزيران ٢٠٠٩

No comments:

Post a Comment

 
View blog authority Global Voices: The World is Talking, Are You Listening?
دوّن - ملتقى المدونين العرب Globe of Blogs http://rpc.technorati.com/rpc/ping Blog Directory