الأخبار - عدد الثلاثاء 28 تموز 2009
الهند ــ نبيل عبدو
في هذه الرقعة الجغرافية يذهلك كلّ شيء. إنها منطقة مليئة بالتناقضات، فالفقر يترافق مع الثراء الفاحش. تشعر بأنّ الجميع يريد أن يساعدك، البعض سيطلب مكافأة والبعض الآخر يكتفي بابتسامة. المشهد لا يخلو من الفوضى، فالسيارات تسير جنونياً غير مبالية بالإشارات أو بالمشاة، فلا تستطيع أن تعرف من يحترم القانون أو من يخالف! عندما يكتشف سائق التاكسي أنّك سائح، يظهر ابتسامته الخبيثة وتصبح التعرفة خيالية، لكنك حين تلعب على الوتر الطائفي تصبح أخاه غير الشقيق! في الطرق ترى أشخاصاً من كلّ الأشكال والأنواع، امرأة بالنقاب الإسلامي الأسود وأخرى ترتدي ثياباً مليئة بالألوان تكشف بطنها. تسمع صوت المؤذن الذي يختلط بصوت الأجراس والغناء في المعابد، فتتغلغل فيك حمى التعايش! تخيّل أن من يترأس الدولة ينتمي إلى إحدى الأقليات الدينية في هذا البلد الذي يتباهى بالعيش المشترك بين جميع أطيافه حتى مع الاضطرابات الطائفية. رغم كل المشاكل يظن سكان هذه الرقعة أن بلدهم هو جنة الله على الأرض. يفتخرون بأبناء شعبهم المنتشرين في أرجاء المعمورة. لكن ثقل فخرهم يقع على حضارتهم القديمة التي تمتد إلى ما قبل آلاف السنين! أخيراً، النهضة التي يشهدها هذا البلد الذي كان يوماً مركز العالم هي نهضة طائر الفينيق من تحت الرماد!
لست أتكلم عن لبنان بل عن الهند... فحين كنت أتنزه في قرية «هامبي» اجتاحت إعلانات وزارة السياحة اللبنانية وكليشيهات اللبنانيين ذهني. مقاومة المقارنة بين ما عشته وما تعيشه صعبة جداً، لكن في نهاية المطاف يستسلم ذهنك لصفاء هذه الواحة الروحية. الحج إلى معبد القرد حافي القدمين. تتسلق 600 درجة تصل بك إلى أبواب الغيوم وأشعة الشمس الحادة تدغدغ قدميك فتحرق التلوثات الذهنية التي تتعرض لها يومياً. تقف على حافة المعبد غير آبه بمعاناة قدميك، جلّ ما تريده هو استعادة روحك التي خطفتها غابات من جوز الهند والموز يتوسطها نهر يداعب الصخور فيتهيأ لك أن الخرير هو للحجارة التي تتأوه من اللذة. تشعر بنوع من التحرر والسلام وتخاطب ذاتك معلناً لها أنك أخيراً وجدت روحانية الهند... ليس تماماً...
الصفاء الروحي عند البعض تقابله معاناة وتسوّل عند البعض الآخر. تفاجأت حين نزلت من المعبد لأستلم حذائي برجل عجوز يطالبني بالبقشيش! فثقافة البقشيش في الهند منتشرة بكثرة، تمشي في الشارع فيقاطعك العجائز والأولاد ينادونك بالرجل المقدس ليتوسلوا بضع قطع نقدية. حتى في المعابد يصدمك مشهد الفقراء الذين رغم فقرهم المدقع يقفون بالصف ليضعوا قرباناً للآلهة، أو يعطوا قطعة نقدية للفيل المقدس المروض ليمنحهم البركة بخرطومه. هذا الفقر الذي اجتمع بالتديّن ولّد أناساً بسطاء مستعدّين للمساعدة بكل ما استطاعوا. لكن في نهاية الأمر تخالجك مشاعر مختلطة من الإعجاب والأسف. فذاك هو بلد يتجه إلى الانضمام إلى الدول الصناعية يجرّ معه جيشاً من الفقراء قدمّوا قرباناً لإلهة النمو الاقتصادي والتقدم. وتستشعر أنّهم راضون على مصيرهم، فتستغرب وتنبهر أمام تزاوج النظام الطبقي الخاص بالاقتصاد والدين. تصعد إلى الباص بعد رحلة متعبة جسدياً ونفسياً وتسأل نفسك: أي إعلان لوزارة سياحة يمكن أن يخفي هذا التناقض والانسجام أو يحولهما إلى ميزة يجب التباهي بها؟
No comments:
Post a Comment