يتحسس جيب بنطلونه كالضحية التي تتحسس أعضائها بعد نجاتها من قذيفة كادت أن تودي بحياتها، يضع يده على علبة سجائر فيخرج منها لفافة ليحاصرها بشفتيه فيضرم فيها النار. كانت هذه عادة يفتعلها في كل مساء تمامًا بعد آذان العشاء، في ذلك المساء كانت معه تشاركه عادته التي قد تكون غريبة فبعد كل مجّة يتنفسها يخرج دخانًا يداعب وجنتيها الحمراوتين، يغمزها لا إراديًّا نتيجة الرماد الذي يتطاير أمام عينيه، فيخيل اليه أنه نبيّ ينطنط بخفة على غيوم جنان تفاصيلها...كان يحب الليل لأنه يستطيع أن يفتعل غيومًا أوضح بسيجارته فيرى تلك المرأة عبر هذه السحاب ويلامسها، فيصبح دخان سيجارته فوهًا ثانيًا يتجرّأ عبره لثم شفتيها..كانوا يشكلّون مشهدًا جميلاً: هو، هي، الليل والسيجارة. هو وسيجارته يتّحدان في الإحتضار، فعند كل نفس يقترب كل منهما الى موته، موت لا مناص منه كما في التراجيديا الإغريقية. هي، جالسة بقربه تحاول فقه ما تفكر فيه مقلتيه، ترسم بسمة إغواء عن غير قصد، تذبل عينيها باحتيال كوردة متكابرة ترفض الماء. أمّا الليل فكان هناك متربصًّا يدغدغهما لإفتعال أحاديث مصطنعة تمهيدًا لما يلي... فالليل ليس حياديًا كالنهار بل يخلي الشوارع والحارات من البشر إلا من البعض الذين يختارهم بعناية فائقة فيعيشون لحظات خلود أو موت مضني. الليل يقتحم النهار، يهزمه ويحكم عليه بالسكينة، والهدوء القاتل ليجبر أنبياؤه المختارين الى ملءه بأحاديث، قصائد، شجارات، مداعبات، نزهات وتأملات..
فهما كانا نبيّان: هو نبيّ يعرف أنه سيسير على درب الجلجلة ربما لهذا الأمر كان يدخن سيجارته ليلاً كالمحكوم بالإعدام يترقب موته المعلن. هي نبيّة لم تدرك بعد أن الليل اختارها لتضحي به، لا تعرف بعد (ولا هو) أن ضفائر شعرها التي انسدلت على رقبته حين اتكأت برأسها على كتفه ستكون حبال مشنقته. كان يعلم أنه في تلك الليلة سيحتضر: ستقتله لتعيد خلقه من رحم عينيها أم سيموت بانصبابه سرابًا يحوم حول كيانها كدخان سيختفي جرّاء تلويحة يد. "بماذا تفكرين؟" سألها بسذاجة، "لا شيء..أصغي الى صمت الليل...وأسأل نفسي كم سيجارة أحتاج لألفظ أنفاسي الأخيرة... وأنت؟" " لم أتخيلك سوداوية التفكير... " ابتسم وغرس أصابعه بشعرها المشاكس محاولاً فكّ عقده التي كانت تدغدغ أنفه فيتسائل إذا كان طعم شفتيها يوازي شذا ضفائرها الخوخية. كان يروق لها أن تنام على وسادة كتفه، فتستطيع أذنها سماع تخبط صدره المثقّل بالسجائر. كانت تستشعر شغفه الخجول حين تتقطع أنفاسه كلما دنت منه فتشعر بكبرياء خفيّ ممزوج بانزعاج ناتج عن تردده الأزلي: أمضى حياته يعيش المابين بين، بين الوهم والواقع، الحقيقة والحلم. ما احترف يومًا تمييز الخطوط والحدود التي تفصل تلك الأشياء عن بعضها فوهمه واقعه وحلمه حقيقته فيرى ما يريد. ينظر اليها كاستعارة جميلة، قصيدة يتغنى بها دون أن يعيشها: لم تكن امرأة كغيرها بل قاتلة خلابة يعلن عبرها شهادته كاتبًا قصيدته الأجمل، ضفائرها كانت شلال خوخ يتدفق على صخور كتفه الرتيب، مقلتيها بلبلين يغردان تعويذة هوى، ووجنتيها رغيفين يحاول انتشال منهما فُتاتًا علّه يغوي بلبلا عينيها، كان يتصور أن نهديها هما ثمار هواية الله في صنع الفخار بعد أن أحال نفسه الى التقاعد فداعب تلك المادّة اللزجة في صباح ما ليصنع ثديين كاملين.
كان شاردًا في عالمه، تائهًا في دهاليز استعاراته، انتهت علبة السجائر وكان رأسها المتكي عليه يمنعه من رؤية عينيها، كان يريد لهذا الليل أن يكون موعد موته المعلن الذي لطالما انتظره، لكنه ماطل كالفدائي الفتى الذي يهرب من المواجهة عند ساعة الصفر بعد أن جاهر طويلاً برغبته في القتال. لكنه كان يعرف أنها ليست حربًا يخوضها بل محاولة يائسة لتمديد المهل.."أحبك" قالها أخيرًا، حافية، يتيمية، وحيدة بمعزل عن أية استعارة. خفقات قلبه تسارعت بشكل جنوني، نسي كيف يتنفس كأن الشهيق والزفير كفّا عن أن يكونان أنشطة بدنية طبيعية، كان ينتظر ردة فعل، فكانت لحظات الصمت الغريب تربك أعضاءه المستقيلة عن أي وظيفة، شعر باقتراب موته: لم يتخيل أبدًا أنه موت بيولوجي فلاطالما أخذه على محمل الاستعارة، فإذا به موت فعلي. أما هي فمازالت هناك بدون حراك رامية رأسها على كتفه، رموشها متحدة باسفل مقلتيها، جهازها التنفسي يحترف الشهيق والزفير كعازف ايقاع متمرّس، شفتاها مطبقتين، لم تردّ عليه فكانت غارقة في نوم عميق. عرف ذلك فشعر بالطمأنينة والسكينة في تأملها نائمة. حرّكت رأسها لتستريح على كتفه متمتمتًا كلمات غير مفهومة، بحركة لا إرادية فركت أنفها ولوحت بيدها كأنها تحاول إبعاد بعوضة أو سراب...حينها أدرك أنها نفذّت موته المعلن.
نبيل عبدو 12 تشرين الثاني 2009
فهما كانا نبيّان: هو نبيّ يعرف أنه سيسير على درب الجلجلة ربما لهذا الأمر كان يدخن سيجارته ليلاً كالمحكوم بالإعدام يترقب موته المعلن. هي نبيّة لم تدرك بعد أن الليل اختارها لتضحي به، لا تعرف بعد (ولا هو) أن ضفائر شعرها التي انسدلت على رقبته حين اتكأت برأسها على كتفه ستكون حبال مشنقته. كان يعلم أنه في تلك الليلة سيحتضر: ستقتله لتعيد خلقه من رحم عينيها أم سيموت بانصبابه سرابًا يحوم حول كيانها كدخان سيختفي جرّاء تلويحة يد. "بماذا تفكرين؟" سألها بسذاجة، "لا شيء..أصغي الى صمت الليل...وأسأل نفسي كم سيجارة أحتاج لألفظ أنفاسي الأخيرة... وأنت؟" " لم أتخيلك سوداوية التفكير... " ابتسم وغرس أصابعه بشعرها المشاكس محاولاً فكّ عقده التي كانت تدغدغ أنفه فيتسائل إذا كان طعم شفتيها يوازي شذا ضفائرها الخوخية. كان يروق لها أن تنام على وسادة كتفه، فتستطيع أذنها سماع تخبط صدره المثقّل بالسجائر. كانت تستشعر شغفه الخجول حين تتقطع أنفاسه كلما دنت منه فتشعر بكبرياء خفيّ ممزوج بانزعاج ناتج عن تردده الأزلي: أمضى حياته يعيش المابين بين، بين الوهم والواقع، الحقيقة والحلم. ما احترف يومًا تمييز الخطوط والحدود التي تفصل تلك الأشياء عن بعضها فوهمه واقعه وحلمه حقيقته فيرى ما يريد. ينظر اليها كاستعارة جميلة، قصيدة يتغنى بها دون أن يعيشها: لم تكن امرأة كغيرها بل قاتلة خلابة يعلن عبرها شهادته كاتبًا قصيدته الأجمل، ضفائرها كانت شلال خوخ يتدفق على صخور كتفه الرتيب، مقلتيها بلبلين يغردان تعويذة هوى، ووجنتيها رغيفين يحاول انتشال منهما فُتاتًا علّه يغوي بلبلا عينيها، كان يتصور أن نهديها هما ثمار هواية الله في صنع الفخار بعد أن أحال نفسه الى التقاعد فداعب تلك المادّة اللزجة في صباح ما ليصنع ثديين كاملين.
كان شاردًا في عالمه، تائهًا في دهاليز استعاراته، انتهت علبة السجائر وكان رأسها المتكي عليه يمنعه من رؤية عينيها، كان يريد لهذا الليل أن يكون موعد موته المعلن الذي لطالما انتظره، لكنه ماطل كالفدائي الفتى الذي يهرب من المواجهة عند ساعة الصفر بعد أن جاهر طويلاً برغبته في القتال. لكنه كان يعرف أنها ليست حربًا يخوضها بل محاولة يائسة لتمديد المهل.."أحبك" قالها أخيرًا، حافية، يتيمية، وحيدة بمعزل عن أية استعارة. خفقات قلبه تسارعت بشكل جنوني، نسي كيف يتنفس كأن الشهيق والزفير كفّا عن أن يكونان أنشطة بدنية طبيعية، كان ينتظر ردة فعل، فكانت لحظات الصمت الغريب تربك أعضاءه المستقيلة عن أي وظيفة، شعر باقتراب موته: لم يتخيل أبدًا أنه موت بيولوجي فلاطالما أخذه على محمل الاستعارة، فإذا به موت فعلي. أما هي فمازالت هناك بدون حراك رامية رأسها على كتفه، رموشها متحدة باسفل مقلتيها، جهازها التنفسي يحترف الشهيق والزفير كعازف ايقاع متمرّس، شفتاها مطبقتين، لم تردّ عليه فكانت غارقة في نوم عميق. عرف ذلك فشعر بالطمأنينة والسكينة في تأملها نائمة. حرّكت رأسها لتستريح على كتفه متمتمتًا كلمات غير مفهومة، بحركة لا إرادية فركت أنفها ولوحت بيدها كأنها تحاول إبعاد بعوضة أو سراب...حينها أدرك أنها نفذّت موته المعلن.
نبيل عبدو 12 تشرين الثاني 2009
No comments:
Post a Comment