هو مصطفى، المواطن المصري الذي سُدّت أمامه سبل العيش، فراوده لسنوات حلم المجيء إلى لبنان والعمل فيه. رحلته بدأت من محافظة المنصورة في مصر، بعدما أقنعه مهرّب مصري بأن يكفل له وصوله إلى الأراضي اللبنانية من طريق السعودية. رحلة دفع ثمنها ذلّاً وخوفاً وكل ما يملك من نقود. كانت ثمارها اعتقالاً في سجن الترحيلات في منطقة «تبوك» السعودية لمدة أكثر من شهر، قضى خلاله مصطفى عيد الأضحى عام 2005 مع 47 عاملاً مصرياً أوقف معهم بعد تخلّي المهرّبين عنهم في منطقة «حقل» على الحدود الأردنية لمدة أسبوع، ناموا خلاله في العراء. عاد مصطفى إلى دياره خالي الوفاض. ركب العبّارة في طقسٍ ممطر وأمواج عاصفة، كان خلالها المركب يتحرك صعوداً ونزولاً، وفيه كان مصطفى يموت ويحيا... ليعود إلى دياره محمّلاً التعب والخيبة.بعد فترة، عاد حلم لبنان ليراوده عقب تشجيع الأقارب العاملين في محطات الوقود، واعدين بدعمه مالياً. قرّر خوض غمار التجربة مجدداً. «لن تكون مضنية ومذلّة أكثر من التي سبقتها، والوضع في مصر لم يعد يُحتمل»، يقول مصطفى. هذه المرة، كان التهريب من طريق سوريا. في شباط 2006، وصل إلى مطار حلب، وكان المهرّب بانتظاره. ركب معه في سيارة ليصل إلى دمشق بعد نحو 12 ساعة. هناك، كانت حياته أشبه بالجحيم، حيث وضع في مخزن تحت الأرض مع نحو أربعين شخصاً، أربعة منهم مصريون، والآخرون سودانيون وعراقيون. أُقفل عليهم لمدة عشرة أيام. كان «يُرمى» لهم من نافذة صغيرة يومياً رغيف وحبّة بطاطا مسلوقة لكل شخص! «المعاملة كانت فعلاً وحشة في سوريا، تبهدلنا أوي»، يستحضر مصطفى معاناته. بعدها، جاء أمر متابعة «الرحلة» لعشرة أشخاص، كان هو من بينهم. وصلوا إلى منطقة الأحراج والغابات في ميني باص وبدأوا السير على الأقدام في ما يشبه الركض من دون توقف لمدة 8 ساعات، من الثامنة مساءً حتى الرابعة فجراً. فالمهرّب لا ينتظر الذين يستسلمون تعباً وإرهاقاً، وإن أدى ذلك إلى سقوطهم أرضاً. يبتسم مصطفى قائلاً: «وصلنا إلى الأراضي اللبنانية» بعد حواجز أمنية فرعية، كان المهربون «يتفاهمون» خلالها مع الأمن، بعدما انتظروا طويلاً دوامات بعض الضباط.ثلاث طلقات نارية في الجو تكفي ليفهم المهرّب البقاعي أنّ «أوّل دفعة» قد وصلت. ركبوا الباص مجدداً وتقدمتهم سيارة مرسيدس لتؤمن لهم الطريق. لكن عند وصوله إلى منطقة الرابية حيث يعمل اليوم، رفض المهرّب أن يعيد له جواز السفر، لابتزازه بدفع 200$، إضافةً إلى المبلغ المتفق عليه وهو 2200$. لم تكن في حوزته، فبقي الجواز مع المهرّب. عمِل مصطفى نحو سنة ونصف لتسديد ديونه... لكنه يختم حديثه بنبرة متفائلة، إن تسعيرة التهريب وصلت اليوم إلى نحو 4000$.
السيّد والعبد والأمن العام
في لبنان 40 ألف عامل مصري تقريباً، نحو 22 ألفاً منهم يعملون بطريقة شرعية، والباقون ما زالوا يعملون في «السوق السوداء». الأغلبية الساحقة منهم تعمل في محطات الوقود، وفق ما أكّد لنا محمد شيحا، المستشار العمالي في السفارة المصرية في بيروت (بينما أرقام وزارة العمل اللبنانية لعام 2009 تُشير إلى أنّ 17 ألف عامل مصري لديهم إجازة عمل وإقامة). يخضعون لنظام الكفيل كغيرهم من الفئات العمالية المهمّشة، بعضهم يعمل بالفعل عند كفيله في محطات الوقود أو غيرها، وبعضهم الآخر «يستأجر» كفيلاً لبنانياً، وفق ما أكده شيحا، مشبّهاً نظام الكفيل بصاحب عمل يجرّ عاملاً نحيفاً وقصير القامة، بجنزير في العنق. التشبيه كاريكاتوري بلا شك، لكنّه يعبّر عن علاقة العبودية التي يمكن أن تنتج من نظام الكفيل، حيث إن إقامة العامل ليست مرتبطة بإجازة العمل وحسب، بل أيضاً بمزاج صاحب العمل!وهنا تكثر قصص المعاناة. يوجد 180 سجيناً مصرياً في سجن رومية، و52 في سجن نظارة الأمن العام، معظمهم متّهمون بـ«الدخول خلسة» أو بـ«الفرار والسرقة»، وفق رأفت إسماعيل الملحق العمالي في السفارة المصرية في بيروت. عند توقيع عقد العمل عند الكاتب العدل، معظم أصحاب العمل يحتجزون جوازات السفر وإجازات العمل بحجة أن العامل أصبح تحت مسؤوليتهم. في إطار هذا المزج بين شروط الإقامة وشروط العمل، تتداخل الأمور لمصلحة الحلقة الأقوى، صاحب العمل. فعند حدوث أي خلاف في العمل، لا يرفع إلى المحاكم المختصة، بل يكتفي صاحب العمل باتهام مستخدمه بـ«الفرار» والسرقة ليرفع عنه المسؤولية، ولو جزئياً. وإذا كان العامل غير شرعي، يُبلغ الأمن العام بدخوله خلسةً، وفق إسماعيل. وهاتان التهمتان، «فرار» و«سرقة» غالباً ما تأتيان معاً، لأن «الفرار» غير كافٍ لفتح قضية جزائية، وفق المحامية مارغو خطار المتابعة لملفات العمال المصريين. وتتابع خطار قائلة: «لأن نظام الكفيل نفسه يفرض على صاحب العمل تكاليف الترحيل (دفع غرامة في الأمن العام، براءة ذمة من وزارة العمل، شراء تأشيرة وسوى ذلك)، يتجه بعض أصحاب العمل الى إلقاء هذه التهم على عمالهم ليرفعوا عن كاهلهم مسؤولية دفع هذه التكاليف».والسجن عالم آخر. التهمة التي يمتد حكمها لبضعة أشهر، يقضيها المتهم لسنة أو أكثر. وملفات المصريين، كغيرهم من العمالة «الرخيصة»، عديدة في هذا الصدد. إذا لم يكن المتهم على صلة بشخص يُلاحق أوضاعه ويدفع أتعاب المحامي وباقي التكاليف، يبقى في السجن فترة غير محددة بعد انتهاء حكمه. في هذا الإطار، حدّثنا شيحا عن «حالات عديدة من المصريين (كغيرهم) تُؤمن تذكرة سفرهم وتُنجز كل أوراقهم، ينتظرون شهراً أو شهرين «تحت الجسر»!
ورقة اليمين: قوانين متعلقة بالحجز التعسفي
ورقة اليسار: قوانين لحماية العمال من مخاطر البنزين
«ظروف العمل؟»، يجيب مصطفى باستغراب عند سؤاله عن ظروف عمله، وكأنها المرة الأولى التي يسمع بهذه العبارة. في الواقع، البطالة وظروف العيش القاسية تدفع بالعديد من المصريين إلى الهجرة للعمل في لبنان من دون شروط تتعلّق بحقوقهم في العمل. الطلب على العمال المصريين في لبنان هو في القطاع غير المنظّم، أي الاستخدام الذي يحرم العمال حقوقهم في العمل، قانونياً أو عملياً.معظم العمّال هم من حملة الشهادات المتوسطة، يعتمدون على شبكة العلاقات العائلية التي تدعمهم مادياً وتسهّل عليهم الوصول خلسةً إلى لبنان، إذ ليس هناك أي طريقة «شرعية» لدخول العامل المصري للعمل في لبنان. والأمن العام يفتح باب تسوية الأوراق أوّل كل سنة، لكن بدفع ضريبة الدخول خلسة وهي 950 ألف ليرة.هكذا فعل مصطفى والكثير من العمال المصريين. بعد نحو سنة من العمل «سخرة». لتسديد مبلغ التهريب، يدّخر مصطفى شهرياً ما يبقى من معاشه المتواضع الذي يصل إلى 300 ألف ل.ل. المبلغ ما دون الحدّ الأدنى للأجور، لكن الاعتراض غير ممكن بسبب وضعه غير القانوني. إلا أن ظروف العمل القاسية لا تقع فقط على العاملين دون إجازات عمل. فمحمود، العامل الأربعيني في إحدى محطات الوقود في منطقة أنطلياس، قد وقّع على عقد عمل براتب 500 ألف ل.ل. إلا أنه فعلياً لا يحصل إلا على 350 ألف ل.ل. بينما مسعد، العامل في محطة وقود في منظقة كورنيش النهر، بدا مفتخراً بأن معاشه أصبح 700 ألف ل.ل. بعد 13 سنة من العمل، نتيجة علاقة الثقة التي تربطه بصاحب العمل. إلا أن دوامه لا يختلف عن باقي العمّال، 12 ساعة متواصلة (من دون ساعة راحة) تصل أحياناً إلى 16 ساعة يومياً، 6 أيام في الأسبوع والأحد «نص نهار»، أي ثماني ساعات! (ما يعني 80 ساعة في الأسبوع حدّاً أدنى). أما أيمن الذي يعمل رسمياً 10 ساعات يومياً، فغالباً ما «يقترح» عليه صاحب العمل البقاء ساعتين إضافيتين مقابل 2000 ل.ل. على غسل كل سيارة.تلك الظروف تتناقض مع القرار الرقم 163/1 الصادر عام 1967 بشأن «تحديد ساعات العمل في محطات المحروقات» بـ«54 ساعة للأجراء العاملين نهاراً و60 ساعة للأجراء العاملين ليلاً» (بينما المادّة 4 من اتفاقية منظمة العمل الدولية الرقم 1 بشأن ساعات العمل، التي صدّق عليها لبنان عام 1977، تحدّد الحد الأقصى لساعات العمل بـ56 ساعة في الأسبوع).ظروف السلامة والصحة المهنية للعمال ليست أفضل حالاً. تقول زوجة محمود إنها عندما ترى عينيه حمراوين منتفختين، تعرف مباشرةً أنه قد عمل على تفريغ الوقود من الصهريج. نسأله إذا كان يستخدم وسائل وقائية كفيلة بعدم تسرّب أبخرة البنزين إلى مكان العمل وعدم امتصاص البنزين من خلال الجلد، يبتسم مجيباً بسخرية: «إحنا تعوّدنا».صدّق لبنان على اتفاقية منظمة العمل الدولية الرقم 136 بشأن الوقاية من مخاطر التسمّم الناجم عن البنزين عام 2000. وبالاستناد إلى بنود هذه الاتفاقية، صدر مرسوم رقم 11802 الذي يتعلق بـ«تنظيم الوقاية والسلامة والصحة المهنية»، ويتطرق في الفصل الرابع إلى «مخاطر العمل في البنزين»، وجاء في المادة الـ53 منه: عدم تسرّب أبخرة البنزين في مواقع العمل؛ استخدام وسائل كافية للوقاية الشخصية من مخاطر امتصاص البنزين من خلال الجلد أو استنشاقه، وسوى ذلك من التدابير الوقائية. تدابير، الواضح أن لا أحد على علم بها سوى المشرّع نفسه. فعندما اتصلنا بنقيب أصحاب محطات الوقود سامي براكس، بدا مستغرباً من وجود قانون كهذا. أما عند سؤاله عن التدابير الوقائية التي يتخذها أصحاب محطات الوقود في لبنان لحماية عمّالهم، فكان الجواب: «هذا خارج اختصاصي»، منهياً المكالمة. في هذا السياق، طالبت «لجنة الخبراء لتطبيق الاتفاقيات والتوصيات» في منظمة العمل الدولية الحكومة اللبنانية، في تقريرها عام 2007، «ببيان التدابير التي اعتمدت لكفالة حصول العمال المعرّضين للبنزين على تعليمات مناسبة عن تدابير حماية الصحة ومنع الحوادث».
إشكاليّة الضمان الاجتماعي
عندما جاء مسعد إلى لبنان، مشياً على الأقدام من سوريا بظروف قاسية ومرعبة، لم يكن مستعداً للتنازل عن الحد الأدنى من حقوقه في العمل. بدا واثقاً من عمله ورفض أن يدفع تكاليف إجازة العمل، الإقامة، عقد العمل، تأمين في بنك الإسكان واشتراك في شركة تأمين... التي يجب على صاحب العمل أن يدفعها كاملةً. عملياً، معظم العمّال المصريين يضطرون إلى دفع هذه التكاليف نتيجة شروط سوق العمل. حتى الكفالة المصرفية (هي مليون و500 ألف ل.ل.) يدفعها العامل تحت اسم كفيله، أما استرجاعها، فمرتبط فقط بضمير صاحب العمل وأخلاقه! عندما اضطرّ أيمن إلى تغيير عمله، وبالتالي كفيله، نصحه صاحب العمل بأن «ينسى» موضوع الكفالة المصرفية ليجبر على دفعها مرة أخرى عند كفيله الثاني من دون أي ضمانات.حصلت احتجاجات منذ عامين عند السفارة المصرية في بيروت اعتراضاً على التكاليف الباهظة التي تقع على عاتق العامل، وتحديداً الاحتجاج على مذكرة وزير العمل السابق محمد فنيش التي تقضي بتطبيق المادة 9 (الفقرتان3 و4) من قانون الضمان الاجتماعي التي تلزم أصحاب العمل بتسجيل العمال الأجانب في الضمان دون الاستفادة منه (في الواقع، فهم العمال أن اشتراكات الضمان ـــــ 15% من الحد الأدنى للأجور الذي غالباً لا يحصلون عليه ـــــ ستقتطع من معاشهم الشهري). ونتيجة اعتراض وتفاوض، وقّعت وزارة العمل في لبنان ووزارة القوى العاملة والهجرة في مصر اتفاقية ثنائية بتاريخ 30/10/2008 بشأن تنظيم العمالة في كلا البلدين، جاء في المادة الثانية منها: «مراعاة مبدأ المعاملة بالمثل بالنسبة إلى رسوم تراخيص العمل والإقامة والتأمينات الاجتماعية (...) مع الإعفاء المتبادل لعمال كلا البلدين من الاشتراك في التأمينات الاجتماعية».الخبير الدولي في موضوع هجرة اليد العاملة في منظمة العمل الدولية إبراهيم عوض أكّد لنا أن «الاتفاقية الثنائية تُعدّ انتهاكاً للاتفاقية 111 المذكورة آنفاً، فإعفاء المصريين من الاشتراك في الضمان الاجتماعي يحرمهم حقهم في الحماية الاجتماعية، ويدفع صاحب العمل إلى تفضيل العامل الأجنبي على الوطني لأن استخدامه أقل كلفة».البديل؟ كما هو رائج في ظل السياسات الاقتصادية النيوليبرالية، التأمين الخاص. في القرار الرقم 52/1 الصادر عن وزارة العمل في لبنان، المتعلق ببوليصة التأمين على الأجراء الأجانب، الساري المفعول منذ سنة 2009، تحدّد المادة 1 أن «تتعهد شركة التأمين بتحمل نفقات نقل الجثمان (...) بمبلغ لا يقلّ عن 12 مليون ل.ل.؛ كذلك «تتعهد شركة التأمين بأن تدفع نفقات استشفاء من جراء حادث أثناء العمل أو خارجه (...) في السنة مبلغاً لا يقل عن 35 مليون ل.ل.».في الواقع، حدثتنا المحامية خطار عن حالات عديدة ترفض فيها شركة التأمين تغطية المريض. لكن حتى نفقات نقل الجثمان لا يلتزم بها العديد من شركات التأمين، تُضيف المحامية. في هذا السياق، أخبرنا أيمن عن صديقه رضا الذي كان يعمل في مغسل سيارات في منطقة الكرنتينا، وقع من درج شديد الانحدار يربط المسكن بالمحطة وتوفي على الفور. رفضت شركة التأمين أن تتحمّل مسؤولية نقل الجثمان إلى مصر. صاحب العمل تبرّأ من الموضوع، فعمد أقرباؤه وأصدقاؤه إلى جمع ما توافر من مال لنقله إلى بلده.
العمل النقابي
«يجوز للأجانب أن ينتسبوا إلى النقابة (...) إذا كان مصرّحاً لهم بالعمل، إلا أنه لا يحقّ للأعضاء الأجانب أن يَنتخبوا أو يُنتخبوا، لكن يحق لهم أن ينتدبوا أحدهم لكي يمثلهم ويدافع عنهم لدى مجلس النقابة»، المادة الـ92 من قانون العمل. يستند رئيس نقابة عمّال توزيع المحروقات في لبنان سليمان حمدان إلى هذه المادة عند سؤاله عن إمكان انضمام العمال الأجانب إلى النقابة، فيسارع إلى تحديد موقفه المؤيد لانضمام العمّال الأجانب، ولو عبر لجنة تنقل معاناتهم بهدف الضغط والتفاوض الجماعي. لكنه لا يلبث أن يُهدّئ نبرته عند السؤال عن عدد العمّال، لبنانيين وأجانب، الذين انضمّوا إلى النقابة. فيجيب بأنّ عدد العمال المنضمّين إلى
في لبنان نحو 40 ألف عامل مصري، 22 ألفاً منهم تقريباً يعملون بطريقة شرعية.
إقامة العامل ليست مرتبطة بإجازة العمل وحسب، بل أيضاً بمزاج صاحب العمل
النقابة «1400 عامل لبناني، معظمهم يعملون في شركات الغاز، انضمّ 15 عاملاً مصرياً منذ فترة، لكن عندما طلبت منهم تأليف لجنة لتمثيلهم ولم يفعلوا، شكرتهم وألغيتُ عضويتهم»، مبرّراً انعدام مشاركة الأجانب بأزمة نقابات في لبنان.في المبدأ، القانون الذي حرص النقيب على تطبيقه يميّز بين العمّال اللبنانيين والأجانب ويتعارض مع إعلان منظمة العمل الدولية بشأن المبادئ والحقوق الأساسية في العمل عام 1998 الذي يلزم جميع الدول الأعضاء، حتى وإن لم تكن طرفاً في الاتفاقيات ذات الصلة (من بينها اتفاقية الحرية النقابية وحماية حق التنظيم الرقم 87 التي لم يصدّق عليها لبنان)، باحترام المبادئ المتعلقة بالحقوق الأساسية في العمل، ومن بينها حق العمّال «من دون أي نوع من أنواع التمييز» بتأسيس نقابات للدفاع عن مصالحهم والانضمام اليها. أما في الواقع، فجميع العمّال الذين التقيناهم في المحطات لم يعلموا بوجود هذه النقابة. مسعد طلب أن أكتب له اسمها على ورقة. أما أيمن فأكّد أنه لا يثق بها لمجرد أنه يعمل في لبنان منذ 10 سنوات ولم يسمع عنها على الإطلاق، بالإضافة إلى أنه يشعر بعد دوامه الطويل وعمله المتعب بأنه بحاجة فقط إلى الطعام والنوم.هي حال العمّال المصريين في المحطات. أيديهم أنهكتها ظروف العمل القاسية، عيونهم تستر الكثير من القصص والذكريات المؤلمة والمرعبة أحياناً. تراهم ينتظرون رنّة هاتف من ذويهم في مصر لتبرق عيونهم فرحاً. حالهم نموذج عن أوضاع العمال المهاجرين في لبنان والعالم... هم الشاهد الأكبر على تراجع حقوق العمال ومكتسباتهم نتيجة غياب الحركات النقابية.
هكذا كان بيت وهكذا أصبحت حياة
أم لثلاثة أطفال، أعمارهم من خمس سنوات إلى سبع. أطفال ضاق بهم المكان، فتسمعهم يبكون ويتشاجرون، وهي تحدثني عن تجاربها في لبنان كزوجة عامل محطة بنزين. تقول سريعاً إن الأمر يحتاج الى ملعقة سكر صغيرة وسينتهي الأمر. هنا لا نقدّم للطفل «نوتالا» أو «نسكويك»، تكفي ملعقة سكر لتسكّت رغبتهم في الحلوى. تحدثك وشعرها يسيح على وجهها وبسمتها المنبعثة، كأن الكلام الذي تسمعه لا يصدر عن هذه المرأة. «قهوة مصرية أم لبنانية؟»، تسألني وهي تروي كيف جاءت الى لبنان للمرة الثانية عام 2008 تهريباً عبر سوريا، برفقة ثلاثة أولاد وخمس حقائب سفر. تشرح عن صعوبة الحياة في ظل تفكك العائلة والخوف من تربية الأولاد دون التعرّف الى والدهم. لكنّ تأشيرة الدخول «سياحة» من السفارة اللبنانية في مصر كانت مستحيلة لأنها على اللائحة السوداء بعد أن كسرت تأشيرتها لعشرة أشهر في الزيارة الأولى. أما الدخول عبر المطار مع ألفَيْ دولار، فغير وارد لأنها تُهدّد بذلك زوجها بفقدان العمل والترحيل الى مصر، إن كسرت تأشيرتها.زوجة العامل فئة ثالثة ممنوعة من الدخول الى لبنان من قبل الأمن العام اللبناني والأمن المصري معاً. لكنها قرّرت المجيء. في مطار القاهرة، معها أولادها الثلاثة، تذاكر سفر والكثير من الحقائب. وكانت المأساة الأولى في هذا المطار عندما رفض الضابط المصري السماح لها بدخول المطار دون إذن دخول من «مجمع التحرير» في مصر. حاولت أن تستثير عواطفه متذرعةً بأن زوجها قد تعرّض لحادث وحالته شديدة الخطورة في سوريا وتريد أن يرى أطفاله قبل أن يفارق الحياة. ردّ الظابط بحزم وبرودة أعصاب. وبعدما أحدثت «ضجيجاً» ووصل طابور المسافرين وراءها الى مدخل المطار، حوّلها عند ضابط آخر ختم لها جواز السفر لتتجه الى مطار دمشق. انتظرها المهرّب ليستقلّوا باصاً عمومياً الى منطقة حدودية. ركبوا دراجتين ناريتين، طفلتها معها وعلى الدراجة الثانية طفلان.ترتشف قهوتها واصفةً هذا اليوم بالمروّع! كان ذلك أثناء أحداث نهر البارد، وكانت الحواجز كثيفة. وعند كل حاجز، كانت تضغط على أنامل صغارها كي يلتزموا الصمت، خشية اكتشاف هوياتهم المصرية.أما المكان الذي تحكي منه قصتها، فله قصته أيضاً. هو بيت من غرفة واحدة. حاولت وزوجها توسيعه الى غرفتين بإضافة ستارة تفصل غرفة الأولاد عن غرفة الزوجين. تبتسم مؤكدةً «أنا وزوجي عمّرناه»! فـ«براتب 350 ألف ليرة، أي منزل يمكن أن تستأجري؟»، تسأل. الشعور بلمّ شمل العائلة سعادة لا توصف بالنسبة إليها، لكن بعدها «راحت السكرة وإجت الفكرة». كان لصاحب المحطة غرفة خالية شاهدة على الحرب الأهلية، فاقترحوا عليه إعادة إعمارها على نفقتهم الخاصة مقابل أن يسكنوا فيها دون إيجار. تشرح لي بحماسة كيف طرشت المنزل ووصلت الكهرباء بمساعدة زوجها وأصدقائه... أما الفرش، فقدمته جارة لبنانية كانت تستبدل فرش منزلها. وهكذا كان بيت من لا شيء.