السفير، ٢٣ كانون الأول ٢٠١٠
هي قصة من بين القصص الناجحة التي تتباهى بها المنظمات الداعمة لريادة المشاريع عند النساء على مواقعها الالكترونية، من دون التحديد (بالأرقام) نسبة نجاح هذه المشاريع المدعومة ومعايير «النجاح» المعتمدة.
بغض النظر عن نجاح هذه الحالة او غيرها، السؤال الأهم هو ما خلفية «تشجيع ريادة المشاريع عند النساء» الذي دخل مصطلحات المنظمات الدولية والمحلية في السنوات الأخيرة؟ في أي إطار يجب تحليل هذه الظاهرة؟ ما المقاربات التي تعمل من خلالها المنظمات الداعمة لمثل هذه المشاريع، وما دوافع الممولين؟
الفقر مشكلة فردية.. وحله ايضاً!
برز الاهتمام بالنساء كمستهدفات في جهود وسياسات التنمية في أواخر السبعينيات من القرن الماضي مع بداية اقتحام السياسات الاقتصادية النيوليبرالية، تحديداً عندما تم «اكتشاف» الاقتصاد غير المنظم في العديد من البلدان النامية. توالت المؤتمرات التي تُعنى في تعزيز وضع النساء الفقيرات في الاقتصادات النامية وانطلقت البحوث في هذا المجال، وخلُصَت الى الاستنتاج أن النساء يعانين من عدة معوقات تحول دون انخراطهن في العمل الاقتصادي، لا سيما بما يتعلق في انشاء المشاريع أو الأعمال. واتُفق على حصر هذه المعوقات بصعوبة نفاذهن الى التمويل والقروض؛ النفاذ الى التدريب في ما يخص تطوير الأعمال؛ النفاذ الى السوق والى صانعي السياسات الخ، أي من دون التطرق الى المعوقات البنيويّة المتعلقة بالسياسات الماكرو اقتصادية المهيمنة.
وشاع في أواخر الثمانينات مفهوم «تشجيع ريادة المشاريع عند النساء» من أجل العمل على تخطيهن لهذه المعوقات. وانكبت المنظمات الدولية والجهات المانحة على العمل في البلدان النامية وتدفقت الأموال لتمويل المشاريع التي تستهدف النساء الفقيرات لإنشاء أو تطوير أعمالهن. فتتعبد الطريق للوصول الى بر الرفاهية الاقتصادية عبر ادخالهن جنان النظام النيوليبرالي ووهبهن حرية السوق.
أما في لبنان، فلم تنطبق قاعدة الاستثناء هذه المرة. فبعد انتهاء الحرب الأهلية، عاد نشاط المنظمات الدولية والمحلية، وبطبيعة الحال بدأ العمل مع النساء الفقيرات، وأخذت مشاريع التنمية في التزايد الى يومنا هذا. وعلى غرار البلاد النامية الأخرى، بدأت ظاهرة القروض البالغة الصغر بالتنامي، ومعها أصبح الحل لمسألة الفقر جليًا كعين الشمس: على النساء أن يؤسسن مشاريعهن الخاصة.
وتنامى عمل المنظمات غير الحكومية بهدف التخفيف من وطأة السياسات الاقتصادية للحكومات المتعاقبة، بل تماهى مع هذه السياسات عبر التعويض عن انسحاب الدولة تدريجيًا من مسؤولياتها الاقتصادية والاجتماعية. ويتم ذلك عبر تصوير وضع النساء الاقتصادي غير السوي، بالأخص الفقيرات منهن، على أنه نابع من معوقات فردية وبطبيعة الحال يصبح الحل فرديًا هو الآخر. في ظل هذا الواقع، تغيب الرؤية الشاملة (أو الماكرو) عن عمل معظم المنظمات الفاعلة في هذا المضمار، فتغض النظر عن غياب الحماية الاجتماعية للنساء الفقيرات وغياب التقديمات الاجتماعية، ويصبح اذاً مبدأ عمل هذه المنظمات يتلخص بعبارة «كل مين يشيل شوكه بإيدو».
بين «الأعلى» و«الأسفل»، هناك وسط مفقود
ماذا يعني فعلياً ان تشجع منظمات اصحاب الأعمال (او سيدات الأعمال) والمنظمات غير الحكومية ريادة المشاريع عند النساء؟ كيف يتم مقاربة هذا الموضوع؟ ما هي الأدوات التي تستخدم في هذا الإطار، وما المفاهيم التي تنادي بها، وكيف تؤثر على النساء المستهدفات؟
المشهد هو الآتي: منظمات أصحاب الأعمال لا تستهدف سوى الفئات الميسورة اقتصادياً ودون مراعاة الفروقات الجندرية في سياساتها وبرامجها. جمعيات سيدات الأعمال، التي تبرز نشاطاتها غالباً في المجلات الاجتماعية، حيث النساء يتخذن الصوّر في كامل أناقتهن، معظم أعضائها من وسط اجتماعي معيّن، تهتم غالباً بالمشاكل النفسية الخاصة بالنساء سيدات الأعمال، من دون ربط مشاكلهن بالإطار الاقتصادي العام، ما يؤدي الى عزلهن عن الحياة الاقتصادية.
في المقابل، تأتي المنظمات غير الحكومية، لتبشر النساء الفقيرات ان طريق الخلاص هو عبر انشاء مشاريع خاصة، بغض النظر عن ان غالبيتها تكون قليلة الانتاجية وفي القطاع غير المنظم، أي هي مشاريع منكشفة وهشة معرضة عند أي خضة الى الانهيار! حقيقة الأمر ان معظم هذه الجهود تنبع من افتراضات عدة، أبرزها وأخطرها هو تصوير المعوقات التي تواجهها النساء على أنها نابعة بشكل رئيسي من قلة خبرتهن في هذا المجال ولافتقارهن لمقومات شخصية، كانعدام الثقة والجرأة والمهارات التي تؤهلهن للقيام بمشاريع معينة. تبعًا لهذا المنطلق يجري تطوير مؤهلات النساء والعمل على بناء ثقتهن وخصوصًا بما يتعلق بالنساء الريفيات. فتتناسى المنظمات أن النساء ذوات الدخل المحدود يفتقرن لأدنى الضمانات الاجتماعية والصحية وأن قضية الخروج من حلقة الفقر ليست مناطة فقط بالإرادة الشخصية! فستنشئ هذه السيدة صالون تجميل، أخرى ستفتح محل سمانة وأخرى محل خياطة والتعاونيات النسائية ستتخصص في انتاج المواد الغذائية، ويشجع ذلك فورة المؤسسات التي تمنح القروض البالغة الصغر التي تغذي الاقتصاد غير المنظم، على أنه دعامة الاقتصاد اللبناني. فبذلك يتم أسر النساء في قطاع هش لا يستطيع أن يؤمن حياةً لائقة واستقلالاً مادياً.
«أعلى الهرم» لا يأبه بالمقاربة الحقوقية لنشاطه لأنه قادر على الوصول لمبتغاه من خلال الضغط واسترضاء أصحاب القرار بشكل فردي، بهدف تحقيق الأرباح والنمو الاقتصادي. أما «اسفل الهرم»، فيستهدف الاقتصاد غير المنظم لإبقائه على وضعه، من خلال التخفيف من آثاره الكارثية. اذاً يتم مقاربة الموضوع من منطق خيري وخدماتي.
فالمقاربة التي تعتمدها معظم المنظمات غير الحكومية تتمثل باعتبار النساء متلقيات للمساعدة وليست حاملات حقوق، فتعتمد ما يمكن أن نسميه سياسة المسكنات التي تصب في ما قلناه آنفًا عن تماهي عمل المنظمات الداعمة مع السياسات الحكومية. بالتالي تصوّر النساء على أنهن عاجزات ومحتاجات، فيقدم لهن شتى أشكال المساعدة كالتدريب والمنح مع إغفال أنهن صاحبات حقوق لا يعملن على تحقيقها. فبدل العمل على تنظيم النساء أو تشجيعهن على الانضمام الى النقابات أو تشكيل مجموعات ضغط للمطالبة بحقوقهن في الحماية الاجتماعية وبسياسات داعمة لهن تسعى الى إلغاء التمييز الجندري الذي يعانين منه، تسعى المنظمات الداعمة الى العمل على المستوى الفردي بمنطق خدماتي بحت.
على مستوى التحليل الجندري، تتساوى معظم المنظمات الداعمة في أسفل الهرم او أعلاه في اهمال ضرورة العمل على تحقيق المساواة بين الجنسين. فمعظم هذه المبادرات تغفل أن انخراط النساء في ريادة المشاريع يزيد من الأعباء التي تتحملها المرأة، المتمثلة بالمسؤوليات المنزلية وعمل العناية. فنادرًا ما تعمل هذه المنظمات على تشجيع النساء على مفاوضة شركائهن على تقسيم الأعباء المنزلية بشكل منصف، او على كيفية السيطرة على مواردهن المادية. وأيضًا نادرًا ما يتم تشجيع النساء على الانخراط في القطاعات المنتجة التي يهيمن عليها الرجال كالصناعة، بل على العكس يتم تشجيعهن على البقاء والتخصص في القطاعات التي تصنف «نسائية» وغالبًا ما تكون غير منتجة. بالتالي تبقى النساء أسيرات هذه القطاعات التي لا تدر دخلاً مهمًا، مما يساعد على تكريس علاقات القوة التي تحكم الأسر، حيث تبقى السيطرة للرجل وتبقى النساء في قطاعات هامشية لا تساعدهن على المفاوضة داخل الأسرة.
بين أعلى الهرم وأسفله، نلاحظ غياب دعم نساء الطبقة الوسطى أو اللواتي لديهن أعمال واعدة وهن الأكثر احتياجاً وقدرةً على انشاء أو تطوير مؤسسات صغيرة او متوسطة تمتص العمال من القطاع غير المنظم، وتؤمن لهم حماية اجتماعية، او على الأقل، امكانية التنظيم النقابي والمفاوضة الجماعية من اجل نيل حقوقهم ومكتسباتهم.
أولويات الممولين
من احدى اشكاليات عمل المنظمات الداعمة لأعمال النساء هي ارتباطها بالمؤسسات المانحة التي غالبًا ما تفرض عليها أجندتها الخاصة. فتعمل المنظمات المحلية على أساس توفّر التمويل. فإذا كان حاليًا التمويل موجه نحو تشجيع ريادة المشاريع عند النساء، فستتجه المنظمات الى هذا المضمار. تشرع طبعاً الى استخدام مفاهيم معينة، كتمكين النساء والاستقلالية، لإرضاء الجهة المانحة. فترى مصطلح «التمكين» ظاهرًا في كل مكان من دون أن يكون للمنظمة تعريف أو فهم واضح للمفهوم. ومن ناحية أخرى، تصر الجهات المانحة على وضع تمويلها للمشاريع في لبنان ضمن اطار الإغاثة في سياق ما بعد الحرب الاسرائيلية على لبنان عام 2006 والحرب على نهر البارد عام 2008. فتفرض على الجهات المحلية العمل في مناطق معينة غالبًا ما تكون مكتظة بمشاريع المنظمات غير الحكومية، ويتم اهمال مناطق اخرى تكون فيها الحاجة ملحة. بذلك تتداخل الجهود وتغطي على بعضها بفعل انعدام التنسيق بين المنظمات الفاعلة، فتكون العلاقة بينها ذات طابع عمودي بحت (بين الجهات المانحة والمنظمات المحلية)، فلا نرى جهوداً مشتركة أو تبادل خبرات أو تنسيقاً على مستوى عالٍ بين المنظمات المحلية، بل انها تتنافس فيما بينها على التمويل. فنستنتج أن هناك كماً من المنظمات تتواجد في المناطق نفسها وضمن مشاريع متشابهة فتضيع الجهود وتتكرر الأخطاء وتتسع الثغرات البنيوية في هذا الاطار.
كما نلاحظ ان تدفق الأموال والجهود نحو ظاهرة القروض البالغة الصغر، التي تبناها البنك الدولي ووكالة التنمية الأميركية والاتحاد الأوروبي والمنظمات الأممية، يتم تصويرها على أنها المسحوق السحري للتخلص من الفقر، عبر ادماج الفقراء في النظام المالي بدلاً من اصلاحه. بغض النظر عن ذلك، من أجل تأمين التمويل تركز المنظمات التي تعطي قروضًا بالغة الصغر على بياناتها المالية وعلى نسب تسديد القروض العالية، ناسيةً أو متناسية أن تظهر بيانات عن مدى انتاجية الأعمال التي ساهمت بإنشائها أو نسبة الأعمال التي تصمد أكثر من ثلاث سنوات بعد قيامها. فالقروض البالغة الصغر لا تكترث لإنتاجية الأعمال بل هي لا تشجعها أبدًا، لأنها تعتمد على التسديد السريع للقروض، ما يمنع تطوير المشاريع الإنتاجية التي تتطلب قروضًا طويلة الأمد. فجل ما تسهم به القروض البالغة الصغر هو مساعدة الفقراء على البقاء على شفير الفقر المدقع.
في النهاية، ما تسوق له معظم الجهود الرامية الى تشجيع مشاريع النساء هو الوصول الى مجتمع من رجال وسيدات أعمال يصارعون لاستمرار أعمالهم الهشة ذات الطابع البقائي، أي لا ترقى الى مستوى تأمين معيشة لائقة. وهنا يحق لنا أن نتساءل لماذا هذه المفاهيم ليست سارية في الدول الصناعية والمتقدمة؟ هلى هذه الدول وصلت الى مستوى الرفاه الاقتصادي لأن كل مواطن فيها هو صاحب عمل؟ طبعًا لا، فالقطاع غير المنظم أقل حضورًا في تلك المجتمعات، واقتصاداتها تتميّز بحضور المشاريع المتوسطة والكبيرة التي توظف العمال الذين يتمتعون بحقوق اقتصادية واجتماعية كالضمان الاجتماعي والحد الأدنى للأجور وضمان الشيخوخة، الخ. وتتميز هذه الاقتصادات بالشركات التي يملكها عدة أفراد، وفي التعاونيات الكبيرة وفي قطاعات منتجة ليست تحت رحمة الخدمات.
الواقع في لبنان يختلف كليًا. فبدل العمل على نقل النساء والعمال في شكل عام الى الاقتصاد المنظّم حيث سيتمتعون بالحماية الاجتماعية، تعمل المنظمات غير الحكومية على تعزيز هذا القطاع والمفاخرة به وأسر العاملين به في دوامة فقر وهشاشة وانكشاف تكاد لا تنتهي.
كارول كرباج ونبيل عبدو